ميخائيل كوراشوف
مدير قسم التحليل
اتحاد مصنّعي المعكرونة الوطني الروسي (RNAPM)
كانت روسيا فيما مضى تُعد من الدول الرائدة في تزويد أسواق البحر الأبيض المتوسط بالقمح القاسي عالي الجودة المُخصّص لصناعة المعكرونة. واليوم، تسعى إلى استعادة هذا الإرث التاريخي. ومع تزايد استهلاك المعكرونة وتبدّل خرائط التجارة العالمية، يبرز السؤال التالي: هل تتمكن روسيا من استعادة مجد وأسطورة قمح اتاغانروغب الأسطوري لتعود إلى الساحة العالمية من جديد؟
تاريخ القمح القاسي في روسيا
كان القمح القاسي أو المخصّص لصناعة المعكرونة من المحاصيل الزراعية الهامة في عهد الإمبراطورية الروسية، وقد حاز على تقدير كبير بفضل جودته العالية، لا سيّما في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وخاصة في إيطاليا. وقد أصبح هذا القمح، الذي حمل اسم مدينة تاغانروغ الساحلية الواقعة على بحر آزوف، رمزاً للحبوب الممتازة في موانئ المتوسط، على غرار قمح امانيتيوباب الكندي. وكانت المطاحن الإيطالية ومصنّعو المعكرونة يفضلون هذا القمح بسبب محتواه العالي من البروتين وكفاءته الممتازة في الطحن. وطوال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت إيطاليا تستورد القمح القاسي من الإمبراطورية الروسية. وحتى يومنا هذا، لا يزال بعض منتجي المعكرونة في إيطاليا يشيرون إلى الإرث التاريخي والجودة الذين ارتبطا بقمح تاغانروغ.
بعد ثورة عام 1917، توقّف تصدير القمح القاسي من روسيا، وفقدت البلاد موقعها المورّد الرئيسي لهذا النوع عالي الجودة في الأسواق العالمية، ولم تتمكن من استعادة هذا الموقع بشكل كامل حتى اليوم. فعلى الرغم من أن روسيا تُعد حالياً المصدّر الأول عالمياً للقمح المستخدم في صناعة الخبز، وثالث أكبر منتج له، إلا أن دورها في سوق القمح القاسي يبقى محدوداً بشكل كبير. حيث تنتج روسيا ما معدّله 1.4 مليون طن من القمح القاسي سنوياً (متوسط السنوات الخمس الأخيرة)، وهو ما يُشكل نحو 4% فقط من الإنتاج العالمي. أما صادراتها من هذا النوع فتتراوح بين 100 ألف و630 ألف طن، أي ما يمثل ما بين 1% و7% من التجارة العالمية. ومع ذلك، لا توجد عوائق جوهرية، سواء مناخية أو لوجستية أو غيرها، تمنع روسيا من زيادة إنتاجها وصادراتها من القمح المخصّص لصناعة المعكرونة.
إنتاج القمح القاسي في روسيا المعاصرة
شهدت روسيا في السنوات الأخيرة توسّعاً مستقراً في مساحة الأراضي المزروعة بالقمح المخصّص لصناعة المعكرونة (انظر الشكل 1). ويعود هذا النمو إلى عدّة عوامل داعمة، من أبرزها: ارتفاع الطلب من قبل مصنّعي المعكرونة، نتيجة توجّه المستهلكين نحو المعكرونة المصنوعة من القمح القاسي عالي الجودة، بالإضافة إلى ازدياد صادرات المعكرونة إلى الدول المجاورة من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، مثل أوزبكستان وكازاخستان وبيلاروسيا.

شكل 1. المساحة المزروعة بالقمح القاسي في روسيا، ألف هكتار
المصدر: RNAPM، Rosstat
عامل مهم آخر يتمثل في ميزة السعر والتي يوفرها القمح القاسي مقارنةً بالقمح المستخدم في صناعة الخبز. إذ تتراوح هذه الميزة في المتوسط بين 20% و30%، وقد تصل في سنوات الحصاد السيئة إلى ما بين 100% و120%. غير أن المزارعين لا يمكنهم الاستفادة من هذا الفارق إلا إذا أنتجوا قمحاً صلباً عالي الجودة يستوفي معايير مصنّعي المعكرونة. أما في حال كان المحصول نوعيته منخفضة، فيُباع بسعر القمح الطري العادي.
من حيث النسبة بين القمح الشتوي والربيعي المخصّص لصناعة المعكرونة، تُظهر روسيا نمطاً معاكسًا مقارنةً بالقمح الطري. ففي حين يشكّل القمح الشتوي نحو 54% من إجمالي المساحات المزروعة بالقمح الطري، لا تتجاوز نسبة القمح القاسي الشتوي حوالي 10% فقط، ويُزرع بشكل رئيسي في المناطق الجنوبية مثل إقليم كراسنودار، إقليم ستافروبول، ومنطقة روستوف. وتُعد هذه المناطق الثلاث من أكبر منتجي القمح الطري في روسيا، وغالباً ما يُخصص إنتاجها من الحبوب للتصدير.
يأتي نحو 90% من إنتاج القمح القاسي في روسيا من القمح الربيعي الذي يُزرع في شهري أبريل ومايو. ويبدأ موسم الحصاد الرئيسي لهذا النوع من القمح في أواخر شهر أغسطس، ويستمر طوال شهر سبتمبر. لذلك، يمتد موسم تسويق القمح القاسي تقليدياً من سبتمبر حتى أغسطس، في حين يمتد موسم تسويق القمح الطري من يونيو حتى يوليو.
على المستوى الإقليمي، يتم إنتاج نحو 55% من القمح القاسي في روسيا في منطقتي أورنبورغ وتشيليابنسك. وتقع هاتان المنطقتان على حدود كازاخستان، عند سفوح جبال الأورال، وتنتج هاتان المنطقتان أعلى أنواع القمح القاسي جودة في روسيا. وتبعد هذه المناطق مسافة تُقدّر بين 1,500 و2,000 كيلومتر عن موانئ بحر آزوف، وهي النقاط الرئيسية التي يُصدَّر منها الجزء الأكبر من القمح القاسي. أما باقي الإنتاج، فيتوزع على مساحة واسعة تمتد من غرب سيبيريا حتى سفوح جبال ألتاي، وإلى الأجزاء الغربية من منطقة الفولغا، بما في ذلك مناطق ساراتوف وسامارا وفولغوغراد وغيرها. (مزيد من التفاصيل حول مناطق زراعة القمح القاسي في الشكل 2).

شكل 2. أراضي زراعة القمح القاسي في روسيا حسب المنطقة عام 2024، ألف هكتار
المصدر: RNAPM، Rosstat
شهدت محاصيل القمح القاسي في روسيا خلال السنوات الأخيرة تقلبات كبيرة تبعاً لكميات الأمطار. بيانات السنوات الخمس الماضية في الشكل 3. في عامي 2020 و2021، أدّت الظروف مفرطة الجفاف إلى تراجع المحاصيل إلى ما بين 0.9 و1 طن للهكتار الواحد فقط، وهو ما تسبب بارتفاع حاد في أسعار القمح القاسي خلال موسم 2021/2022. أما أفضل عام من حيث المحصول والجودة فكان عام 2022، حيث شهدت مراحل النمو الحرجة كميات كافية من الأمطار، مما أسفر عن تحقيق محصول قياسي بلغ 1.8 طن للهكتار الواحد.

شكل 3. إنتاج القمح القاسي في روسيا، طن/هكتار
المصدر: RNAPM، Rosstat
العامان التاليان، 2023 و2024، كانا ملائمين من حيث وفرة المحصول، إلا أن الجودة تأثرت سلباً. حيث أدّت الأمطار الغزيرة خلال موسم الحصاد إلى تراجع كبير في جودة الحبوب، حيث تراوحت نسبة الحبوب المنبتة بين 10% و50%، ولم يستوفِ سوى نحو 25% من المحصول المعايير المطلوبة لإنتاج المعكرونة. وعلى ضوء ذلك، ولحماية السوق المحلية من نقص القمح القاسي اللازم لمصانع المعكرونة، فرضت وزارة الزراعة الروسية حظراً مؤقتاً على تصدير القمح القاسي من 1 ديسمبر 2023 حتى 31 مايو 2024. وقد قوبل هذا القرار بردود فعل سلبية من قبل المزارعين والمصدّرين. رغم ذلك، زادت المساحات المزروعة في عام 2024 بنسبة 25% مقارنة بعام 2023، ما يؤكد أن زراعة القمح القاسي لا تزال أكثر جاذبية للمزارعين مقارنة بالقمح الطري. ويُظهر الشكل 4 الاتجاهات السعرية لكل من القمح القاسي والقمح الطري. كما يتضح من الرسم البياني، تجاوزت أسعار القمح القاسي عالي الجودة أسعار القمح الطري بنسبة تتراوح بين 30% و120% خلال السنوات الثماني الماضية، مما يجعل القمح القاسي منتجاً متخصصاً ذا جدوى اقتصادية عالية عندما تتحقق الجودة المطلوبة.

شكل 4. أسعار القمح القاسي من الدرجة الثالثة وقمح الخبز في منطقة الفولغا، روبل/كغ، بدون ضريبة القيمة المضافة (تسليم إلى المصنع)
المصدر: RNAPM
في عام 2024، بلغ إجمالي إنتاج روسيا من القمح القاسي 2 مليون طن، مسجلاً رقماً قياسياً في حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي، بفضل زيادة مساحة الأراضي المزروعة بنسبة 25% ووفرة الرطوبة في التربة. ديناميكيات الإنتاج خلال السنوات الخمس الماضية في الشكل 5.

شكل 5. إجمالي إنتاج القمح القاسي في روسيا، ألف طن
المصدر: RNAPM، Rosstat
تصير القمح القاسي الروسي
تختلف صادرات روسيا من القمح القاسي حسب الموسم. قبل خمس سنوات، كانت هذه الكمية تقارب 100 ألف طن في السنة. وبلغ الحجم القياسي خلال موسم 2023/2024 (سبتمبر - أغسطس) مستوى 636 ألف طن. أما في موسم 2022/2023، فتم تصدير 557 ألف طن، منها 59% إلى إيطاليا، و22% إلى تركيا، و16% إلى تونس. التفاصيل موضحة في الشكل 6.

شكل 6. صادرات القمح القاسي الروسي في موسم 2022/2023، طن
شهد موسم 2023/2024 رقماً قياسياً في صادرات القمح القاسي بلغت مستوى 636 ألف طن، إلا أن معظم هذه الصادرات استندت إلى محصول عام 2022 الذي تميز بوفرة الكمية وجودة المنتج. وفي ديسمبر 2023، فرضت روسيا حظراً على تصدير القمح القاسي، مما أثر بلا شك على الأرقام النهائية للموسم. ظلت إيطاليا في صدارة المستوردين بحصة تبلغ 50%، فيما شكلت دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة 55% من إجمالي صادرات روسيا من القمح القاسي. جاءت تركيا في المرتبة الثانية بحصة 21%، بينما ارتفعت حصة تونس من 16% في موسم 2022/2023 إلى 19% في موسم 2023/2024. المزيد من التفاصيل حول موسم التصدير 2023/2024 في الشكل 7.

شكل 7. صادرات القمح القاسي الروسي في موسم 2023/2024، طن
بوجه عام، يمكن وصف عام 2024 بأنه عام القيود المفروضة على القمح القاسي الروسي، وهو ما غيّر بشكل كبير خارطة التصدير. ففي الأول من يونيو 2024، تم رفع الحظر عن تصدير القمح القاسي من روسيا، غير أن الاتحاد الأوروبي فرض في الأول من يوليو رسوماً جمركية قدرها 148 يورو للطن الواحد على واردات القمح القاسي الروسي، ما أدى فعلياً إلى وقف الشحنات. كذلك، فرضت تركيا في 21 يونيو حظراً على استيراد القمح، بما في ذلك القمح القاسي. ونتيجة لذلك، أصبح من المستحيل تصدير القمح إلى اثنين من أكبر مشتري روسيا، وهما إيطاليا وتركيا، مما أدى إلى انكماش كبير في جغرافيا التصدير .
في الموسم الحالي 2024/25 (من سبتمبر إلى يناير)، تغيّرت جغرافيا التصدير بشكل كبير بسبب القيود المذكورة أعلاه. ففي حين كان القمح القاسي الروسي يُصدّر في السنوات السابقة إلى ما بين 5 و7 دول، باتت هناك الآن وجهتان رئيسيتان فقط، هما تونس والجزائر. ففي الأشهر الخمسة الأولى من الموسم (سبتمبر - يناير)، شُحن 223 ألف طن (أي ما يعادل 79%) إلى تونس، و56 ألف طن (20%) إلى الجزائر. وهكذا، أصبحت دول شمال أفريقيا تمثل المنطقة الأساسية لصادرات القمح القاسي الروسي
يُعد المغرب أحد المشترين المحتملين الآخرين للقمح القاسي الروسي. ففي الموسم الحالي (من 1 يوليو 2024 حتى 23 أبريل 2025)، ارتفعت صادرات القمح الطري من روسيا إلى المغرب بنسبة 150.6% مقارنة بالموسم السابق، منتقلة بذلك من 431 ألف طن إلى 1.08 مليون طن، ما يشير إلى عدم وجود قيود سياسية كبيرة تعرقل هذا التبادل التجاري.
العائق الرئيسي الوحيد الذي يحد من صادرات القمح القاسي إلى المغرب هو المعايير العالية جداً للجودة. في الوقت الحالي، يلبّي هذه المعايير المورّدون الكنديون الذين يصدّرون صنف أول CWAD، وهو أعلى أنواع القمح القاسي جودة. ولكي تتمكن روسيا من منافسة القمح الكندي، يتعين عليها إغراق السوق بأصناف تحتوي على نسبة عالية من الكاروتينات، وهي سمة تعتبر مؤشراً مهماً بالنسبة للمستوردين المغاربة. ورغم أن العمل جارٍ على قدم وساق على تطوير أصناف جديدة تحتوي على نسبة أعلى من الكاروتينات في سويداء الحبة، فإن الأصناف الروسية لا تزال حتى الآن غير مطابقة للمواصفات من حيث هذه الخاصية.
بالإضافة إلى القيود الخارجية على التصدير، تفرض الحكومة الروسية أيضاً قيوداً داخلية. أول هذه القيود هو الضريبة المتغيرة على الصادرات، التي تطبَّق على كل من القمح الطري والقمح القاسي، وتُحتسب أسبوعياً استناداً إلى سعر صرف الدولار الأمريكي ومتوسط سعر التصدير على أساس طريقة التسليم (FOB) للقمح الطريق. تبلغ هذه الضريبة نحو 26 دولاراً أمريكياً للطن الواحد في وقت كتابة هذه المقالة. أما القيد الثاني، فهو الحصة التصديرية التي تُفرض سنوياً منذ عام 2021، وتمتد من 15 فبراير حتى 31 يونيو. في موسم الحبوب الحالي، تم تحديد الحصة عند مستوى ـ10.6 ملايين طن. يتم توزيع الجزء الأكبر من الحصة (90%) على المصدّرين وفقاً لمبدأ االأسبقية في الوقتب، في حين يُخصص الجزء المتبقي (10%) من إجمالي الحصة للأحجام المرفوضة أو غير المستخدمة. وتُعد هذه القيود مؤثرة بشكل خاص على صادرات القمح القاسي، إذ إن الشركات التي تتخصص في تصدير هذا النوع لا تتمكن دائماً من الحصول على حصة تصديرية ضمن هذه الكوتا.
التوقعات لموسم 2025/2026
يبدأ في روسيا عادةً موسم زراعة القمح القاسي الربيعي في شهر أبريل في المناطق الجنوبية ومناطق التربة السوداء، ثم يمتد شرقاً نحو جبال الأورال وغرب سيبيريا، ويستمر حتى نهاية شهر مايو أو بداية شهر يونيو. وبحسب التقديرات في القطاع، من المتوقع أن تنخفض المساحات المزروعة بنسبة طفيفة تبلغ 5% في عام 2025، لتتراجع من 1.23 مليون هكتار إلى 1.17 مليون هكتار. وبافتراض متوسط إنتاج يبلغ 1.38 طن للهكتار الواحد، قد يصل إجمالي الحصاد من القمح القاسي إلى نحو 1.6 مليون طن. وإذا ما سمحت الظروف الجوية بإنتاج قمح قاسي عالي الجودة يحتوي على ما لا يقل عن 14% من البروتين، ونسبة زجاجية تبلغ 70% أو أكثر، ووزن اختبار يصل إلى 790 غرام/لتر، فإن المصدّرين الروس سيتمكنون من المنافسة بقوة في أسواق شمال أفريقيا، ولا سيما من خلال الشحنات المرسلة إلى تونس والجزائر.
نقدّر إمكانات التصدير للموسم الجديد بنحو 500 إلى 600 ألف طن. في المقابل، يتزايد الطلب المحلي على القمح القاسي المخصص لصناعة المعكرونة، ومن المتوقع أن يبلغ هذا الطلب نحو 900 إلى 950 ألف طن. إن سوق المعكرونة الروسي سوق تنافسي للغاية، إذ يضم أكثر من 40 شركة، إلا أن ثلاث شركات كبرى، وهي Makfa وSI Group وBarilla، تستحوذ على 60% من إجمالي إنتاج المعكرونة المصنوعة من القمح القاسي. وتُعد هذه الشركات الثلاث من الأعضاء المؤسسين لاتحادنا.
لذلك، ومن أجل بناء سوق محلية مستدامة وتلبية إمكانات التصدير المقدّرة بنحو 500 ألف طن، يحتاج المزارعون الروس إلى إنتاج ما لا يقل عن 2 إلى 2.5 مليون طن من القمح القاسي. وكما أظهرت التجربة العملية، فإن هذا الهدف قابلاً للتحقيق بدرجة كبيرة.