إبراهيم أوغوز
مدرسة فرانكفورت للتمويل والإدارة، تركيا
من التنبؤ بمحاصيل القمح في مصر من خلال تفسير الأحلام، إلى الخوارزميات التي تحلل ملايين البيانات اليوم... هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتنبأ فعلاً بأسعار القمح؟ وإذا أصبح ذلك في متناول الجميع، كيف سيتغير شكل السوق الحرة؟ حسناً، من سيمتلك هذه القوة؟ هل سيستفيد منها الجميع على قدم المساواة، أم أننا أمام ولادة فجوة جديدة بين الأغنياء والفقراء؟
منذ أن أدرك الإنسان نفسه، وهو يسعى لتوقّع المستقبل. وعند دراسة التاريخ المصري، نعلم مدى تأثير الكهنة في إدارة الدولة واتخاذ القرارات. فقد رأى فرعون مصر، الملك زوسر، حلماً أثناء نومه، وطلب من كهنة ذلك العصر تفسير رؤياه. لكن الكهنة لم يتمكنوا من تقديم تفسير مُرضٍ أو أن يتفقوا على تفسير واحد. وقد أثّر هذا الموقف تأثيراً كبيراً في إدارة شؤون مصر. في تلك الفترة، كان النبي يوسف عليه السلام يقضي عقوبة في السجن، فسّر حلم الملك. ووفقاً لتفسير النبي يوسف، فإن البلاد ستشهد سبع سنوات من الوفرة، تليها سبع سنوات من المجاعة. ووفقاً للرواية التي حدثت في مصر، فقد تم تخزين القمح خلال سنوات الوفرة، مما مكّن البلاد من الصمود خلال أوقات المجاعة.
في يومنا هذا، لا يزال كثير من الناس يسعون إلى توقّع مستقبلهم من خلال قراءة الطالع، أو تفسير أحلامهم، أو حتى من خلال مراقبة مواقع النجوم. أما الاقتصاديون والإحصائيون، فيعتمدون على بيانات معينة، ويستندون إلى معطيات سابقة وفرضيات محددة لإجراء توقعات اقتصادية. ويتنافس خبراء الاقتصاد على تقديم أكثر التنبؤات دقة وإثارة. ويُعرف جورج سوروس، الساحر الإمبريالي الذي يُلقب بساحر المال، بأهمية التنبؤ الدقيق في الأسواق المالية، كما أوضح في كتابه االنموذج الجديدب. أما الرئيس التنفيذي للذكاء الاصطناعي في مايكروسوفت، مصطفى سليمان، فيقدّم في كتابه االموجة المرتقبةب عرضاً لافتاً لكيفية تحوّل العالم والبشرية بفعل الذكاء الاصطناعي.

ماذا لو طرحنا عليكم هذا السؤال: هل يستطيع الذكاء الاصطناعي تحديد أسعار القمح؟ يمكنكم الإجابة بـبنعمب أو الاب. لكن على الأقل، كلّنا نرغب في الوصول إلى بيانات ذكاء اصطناعي تتيح لنا إجراء تنبؤات دقيقة تتعلّق بمجال عملنا. تخيّل أنك تعمل في الزراعة. لا بدّ أن تتساءل اأي محصول أزرع كل عام؟ وما السعر المتوقع له؟ب. أو ربما أنت تاجر أو معالج للمنتجات الزراعية، أو تتابع حركة الأسهم في البورصة. ألا ترغب في التنبؤ بدقة بكيفية تقلب أسعار المنتجات/الأوراق المالية في تاريخ معين، والشراء في الوقت المناسب والبيع في الوقت الأكثر ربحية؟ اليوم، ربما تعتمد في ذلك على خبراتك الشخصية. ولكن في المستقبل القريب جداً، سيكون بالإمكان الوصول إلى بيانات أكثر واقعية ودقة، بفضل أنظمة تحلل ملايين البيانات وتعرض لك نتائج واضحة. ألا ترغب في الوصول إلى بيانات أكثر واقعية؟ كلّنا نتمنّى، وسنستمر أيضاً في التمنّي، أن نمتلك مثل هذه المعرفة العميقة بين أيدينا.
سواء سمّيناه االذكاء الاصطناعيب أو االتعلّم العميقب أو اعقل الآلةب، فنحن ندخل مرحلة جديدة ستؤثر تأثيراً عميقاً على حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويبدو أن هذه التكنولوجيا باتت مؤهلة لأن تلعب دوراً في صياغة ملامح العالم من الآن. في الوقت الذي لا يزال فيه العالم يناقش ما الذي يمكننا فعله بعقل الآلة في المستقبل القريب، يظل السؤال مطروحاً، هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتنبأ بالمستقبل بشكل دقيق من خلال خوارزمياته؟ على سبيل المثال، هل يمكن التنبؤ بأسعار السلع الزراعية بدقة؟ وما هي الشروط التي تُمكّنه من التنبؤ الدقيق؟ هل سيكون بإمكان الجميع الوصول إلى هذه الحسابات والخوارزميات التي قد تمنح من يملكها القدرة على إثراء أو إفقار الأفراد/الشركات بين ليلة وضحاها؟
ما الذي سيقدّمه الذكاء الاصطناعي في هذا المجال؟ رغم أن ما سنذكره يتضمن بعض التفاصيل التقنية، إلا أنه من المتوقع أن يتمكن الذكاء الاصطناعي من تحليل المؤشرات التي يستخدمها علم الإحصاء اليوم، مثل المتوسط المتحرك الأسي (EMA)، مؤشر القوة النسبية (RSI)، نطاقات بولينجر، تصحيحات فيبوناتشي، المذبذب العشوائي، ومؤشر الاتجاه المتوسط، بدقة أعلى بكثير. علاوة على ذلك، يبدو أن قطاع التنبؤ سيشهد تطوراً كبيراً نحو مستويات أكثر تقدماً. فعلى سبيل المثال، سيكون بالإمكان تحليل بيانات المناخ المتوقعة للعام المقبل، لتحديد ما إذا كان هناك احتمال لتقلبات في إنتاج القمح، مع تقديم نسبة دقيقة لاحتمالات حدوث هذه التقلبات. كذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي حساب تأثيرات انكماش العرض والطلب أو تغيّرات الأسعار في محصول القطن على إنتاج الذرة، ومن ثم على أسعار الذرة عالمياً، بشكل أكثر وضوحاً ودقة. ومع قدرة عقل الآلة على قياس هذه النوعية من المتغيرات الدقيقة، فإن احتمال التنبؤ بأسعار المنتجات بدقة عالية يبدو أمراً مرجّحاً وبشدة.
قد نتساءل، إلى أي مدى سيكون من الممكن أن يتنبأ الذكاء الاصطناعي بدقة بنتائج تتشكل من مئات المتغيرات الطبيعية (كالمناخ، والتربة، والكائنات الحية) ومن إرادة ملايين البشر وثقافتهم الإنتاجية؟ بمعنى آخر، هل سيتمكن الذكاء الاصطناعي من تحليل التوقعات المناخية، وقياس تأثيرها على إنتاجية المحاصيل بشكل خاص، وفي الوقت ذاته قراءة وتقييم توجهات ملايين المنتجين والشركاء؟ من منّا يمكنه أن ينكر أن عقل الآلة، الذي ابتكره الإنسان بعقله، قد بات اليوم قادراً، بفضل تقنيات الحوسبة السحابية وبنى الإنترنت فائقة السرعة مثل شبكات الجيل السادس (6G)، على معالجة البيانات بسرعة وكفاءة تفوق قدرة الإنسان نفسه، وبالتالي على تقديم نتائج أكثر دقة؟
حسناً، إذا تحدثنا عن تشكل أسعار السلع الزراعية، أليس هناك مفهوم مفقود؟ الآلية التي نسمّيها السوق تحتوي بطبيعتها على قدر من التلاعب. فلو لم يكن هناك تلاعب، فعلى أي أساس ستتشكل تقلبات الأسعار في اقتصاد السوق الحر؟ وهنا يبرز سؤال يصعب الإجابة عليه، اهل سيكون بمقدور الذكاء الاصطناعي أيضاً أن يرصد عمليات التلاعب؟ أم أنه سيكون أداة تساعد على خلق هذه التلاعبات؟ب. أنا لا أمتلك جواباً على هذا السؤال حتى الآن. المشكلة تكمن في التالي؛ إذا تمكّن أحدنا من معرفة المستقبل، فمعنى ذلك أن الجميع سيكون قادراً على معرفته. لكن، أن يعرف الجميع ما عرفه فرد مسبقاً يتعارض مع طبيعة الاقتصاد، أي مع طبيعة تشكّل الأسعار نفسها. إذًا، هل يعني ذلك أن نِعم الذكاء الاصطناعي لن تكون متاحة للجميع؟ وإذا لم يستفد الجميع منه، فهل سيزداد من يصل إلى هذه الأدوات ذكاءً وثروةً، بينما تزداد الأغلبية فقراً وتهميشاً؟ كل هذه الأسئلة ما زالت مطروحة وقائمة.

إذا كان الذكاء الاصطناعي سيعرف كل شيء، وسيكون قادراً على التنبؤ بالمستقبل أيضاً، فهل سيجعل هذا من العبقري والبسيط، من المتعلم وغير المتعلم، أشخاصاً متساوين؟ وإذا كنا جميعنا متساوين، فهل سنكون أكثر سعادة؟ هل سيكون هناك معنى للكلام أو الكتابة بعد ذلك؟ لا أعلم.
في عام 2025، العام الذي بدأت فيه كتابة هذا المقال، شهدت تقنيات الذكاء الاصطناعي ثورة حقيقية. أطلقت جمهورية الصين الشعبية نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي اDeepSeekب، والذي تسبب في خسائر مالية بمليارات الدولارات في ليلة واحدة لأسهم شركات التكنولوجيا الأمريكية. كما أدت انهيارات أسهم التكنولوجيا إلى تأثير سلبي على شركات الرقائق اليابانية. على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، بدأت تظهر روابط تعرض إشارات االشراء والبيعب في البورصات باستخدام الذكاء الاصطناعي، تسأل المستخدمين عما إذا كانوا يرغبون في الحصول عليها. يبدو أن الأمور ستتطور بشكل أسرع مما كنا نتوقع، وستتحول إلى هيكل مليء بالشكوك وعدم اليقين.
في قناعتي، سيكون من الممكن التنبؤ بالمستقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي، لا سيما في ما يتعلق بتشكّل أسعار السلع الزراعية بما في ذلك القمح، لكن هذه البيانات القيّمة جداً سيحصل عليها ويطورها أنظمة ذكاء اصطناعي مغلقة. حتى الآن، يدعونا عالم البرمجيات الضخم هذا، في مرحلة جمع البيانات، إلى داخل منظومته بجمل ساحرة وجذابة. هل سيكون ايوسف الذكي الاصطناعيب في القرن الحادي والعشرين سبباً في جلب الوفرة أم المجاعة؟ هل سيشعل الحروب أم سيجلب السلام؟ هل سيفتح الباب أمام التفاوت غير العادل في توزيع الثروات أم سيحقق العدالة في الدخل؟ هل سيدفع الشركات والدول نحو الإفلاس أم سيحميها؟ سننتظر ونرى ما إذا كنا سنسلّم مستقبلنا إلى هيمنة وسلطة هذا العالم البرمجي الهائل الذي خلقه حتى أبناء الرأسمالية المتوحشة نفسها. العقل البشري الطبيعي يعي جيداً الأخطار والدمار الأخلاقي الذي قد يجلبه اعقل الآلة الاصطناعيب، ويفتح باب النقاش حول ذلك.