BLOG

البحث عن توازن جديد في تجارة الحبوب العالمية: من سيملأ فراغ الولايات المتحدة في السوق الصيني؟

21 ذو الحجة 144610 دقيقة للقراءة

كاترينا مودريان
كبيرة محللي شركة ASAP Agri


إينا ستيبانينكو
كبيرة محللي شركة ASAP Agri

يؤدي‭ ‬تصاعد‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والصين‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬توزيع‭ ‬الأوراق‭ ‬في‭ ‬أسواق‭ ‬الحبوب‭ ‬العالمية‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التحليل‭ ‬الخاص،‭ ‬تقوم‭ ‬المحللتان‭ ‬البارزتان‭ ‬لدى‭ ‬ASAP Agri،‭ ‬إينا‭ ‬ستيبانينكو‭ ‬وكاتيرينا‭ ‬مودريان،‭ ‬بتقييم‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬دول‭ ‬منطقة‭ ‬البحر‭ ‬الأسود،‭ ‬وهي‭ ‬أوكرانيا‭ ‬وروسيا‭ ‬ورومانيا،‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬سد‭ ‬الفجوة‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬تراجع‭ ‬حصة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬واردات‭ ‬الحبوب‭ ‬الصينية،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬دول‭ ‬أمريكا‭ ‬الجنوبية،‭ ‬وبالأخص‭ ‬البرازيل‭ ‬والأرجنتين،‭ ‬ستتمكن‭ ‬من‭ ‬الاستحواذ‭ ‬على‭ ‬الجزء‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬الطلب‭.‬

في أوائل شهر أبريل، اتخذت الولايات المتحدة خطوة جريئة لكنها مثيرة للجدل، حيث فرضت رسوماً جمركية تتراوح بين 10% و34% على شركائها الرئيسيين في التجارة الزراعية. ورغم أن هذه الإجراءات تم تعليقها لمدة 90 يوماً، إلا أن التعرفة الأساسية البالغة 10% لا تزال سارية، واحتمال عودة الرسوم الأعلى يثير قلق الأسواق. وتواجه الولايات المتحدة خطر إثارة إجراءات انتقامية واسعة النطاق نتيجة معاقبة أكبر عملائها. حتى الآن، كانت الصين هي الوحيدة التي ردّت بحزم، مما دفع بأكبر اقتصادين في العالم إلى مواجهة حرب تجارية متصاعدة بسرعة. من جهتها، منحت الاتحاد الأوروبي مهلة للمفاوضات عبر تعليق الرسوم البالغة 25% على الذرة الأمريكية حتى تاريخ 14 يوليو. 

أقسى ضربة وُجهت إلى الصين تمثّلت في فرض تعرفة جمركية بنسبة 145% دون أي تأجيل لمدة 90 يوماً. وردّت الصين بإجراءات انتقامية، حيث فرضت رسوماً بنسبة 140% على الذرة والقمح الأمريكي، و135% على فول الصويا. هذا التصعيد يعيد إلى الأذهان حرب التجارة في موسم 2018/2019، عندما انهارت واردات الصين من فول الصويا الأمريكي عقب فرض تعرفة بنسبة 25%. لكن المخاطر هذه المرة أكبر بكثير، فالتعريفات أعلى، كما أن الصين في وضع أكثر استعداداً، بعد أن عملت على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها، وعزّزت علاقاتها التجارية مع البرازيل والأرجنتين، واستثمرت بكثافة في قطاعها الزراعي المحلي.

ما هي فرصة البحر الأوسود في واردات الذرة؟ 

شهدت واردات الصين من الذرة هذا الموسم انخفاضاً حاداً، حيث تراجعت إلى 1.15 مليون طن فقط خلال الفترة من شهر أكتوبر إلى شهر فبراير، وهو رقم بعيد جداً عن حجم الواردات في الفترة نفسها من العام الماضي، والذي بلغ 18.5 مليون طن. وفي حين تم استبعاد الولايات المتحدة بالكامل من السوق الصيني، تمكّنت أوكرانيا من الحفاظ على وجودها رغم الحرب المستمرة. أما البرازيل، فقد عززت موقعها بصفتها مورّد رئيسي للذرة إلى الصين بعد توقيع اتفاق الصحة النباتية عام 2022، ونجحت في الحفاظ على الصدارة، وإن كان ذلك بأحجام منخفضة نسبياً.


يشير انخفاض الطلب الصيني حالياً على الواردات إلى أن بكين قادرة هذا الموسم على الاستغناء عن الذرة الأمريكية تماماً. وبحسب تقرير لوزارة الزراعة الأمريكية (USDA) الصادر في أبريل، من المتوقع أن تبلغ واردات الصين من الذرة في موسم 2024/2025 نحو 8 ملايين طن، في حين تقدر وزارة الزراعة الصينية هذا الرقم عند7 ملايين طن. ومع ذلك، يتبنى بعض المحللين في السوق موقفاً أكثر حذراً، مرجّحين أن ينخفض حجم الواردات الفعلي إلى حدود 2 مليون طن فقط. 

أرتيم‭ ‬روزكوف
Atria Brokers

يقول أرتيم روزكوف، الشريك المؤسس لشركة Atria Brokers، « عند النظر إلى الموسم المقبل، فإن قدرة الصين على الاستغناء تماماً عن الذرة الأمريكية تعتمد إلى حدّ كبير على كيفية تطور الطلب. إذا ظل الطلب منخفضاً، فستتمكن البرازيل أساساً، مع دور ثانوي لأوكرانيا، من تلبية احتياجات الصين. لكن إذا ارتفعت أحجام الواردات بشكل مفاجئ كما حدث في السابق، فلن يكون الاعتماد على البرازيل وأوكرانيا وحدهما كافياً؛ الأمر الذي سيجعل مسألة تنويع مصادر التوريد أكثر تعقيداً وصعوبة». 

إذا تجاوزت واردات الصين من الذرة حاجز 10 ملايين طن، فمن المرجّح أن تظل البرازيل المورّد الأساسي للصين، مع دخول أوكرانيا كمصدر ثانوي. لكن في حال شهد الطلب ارتفاعاً حاداً، فقد تصل قدرات كلا البلدين إلى حدودها القصوى، مما يفرض تحديات من الناحيتين الوجستية والإنتاجية. في مثل هذا السيناريو، قد تُفضّل الصين التوجّه نحو الأرجنتين، ثالث أكبر مُصدّر للذرة في العالم، بدلاً من الاعتماد على موردين آخرين في منطقة البحر الأسود. وعلى الرغم من أن صادرات الأرجنتين من الذرة إلى الصين لا تزال محدودة حالياً، فإن موافقة الصين في مايو 2024 على صنفين من الذرة المعدّلة وراثياً والتي تتحمل مبيدات الأعشاب التي تُزرع في الأرجنتين، فتحت الباب أمام توسيع التجارة بين البلدين مستقبلاً.


أما المورّدون المحتملون الآخرون، فيواجهون قيوداً بنيوية تحدّ من قدرتهم على تلبية الطلب القادم من الصين. فعلى سبيل المثال، تبلغ القدرة التصديرية القصوى لروسيا نحو 7 ملايين طن، إلا أن شحناتها إلى الصين لا تزال ضئيلة؛ إذ لم تُصدّر سوى 100 ألف طن من الذرة إلى السوق الصيني خلال الفترة من أكتوبر إلى مارس من هذا الموسم، مقارنةً بمستوى ـ156 ألف طن في موسم 2023/2024، ما يعكس تراجعاً في الأحجام. ومن بين باقي اللاعبين في منطقة البحر الأسود، تمتلك بلغاريا ترخيصاً لتصدير الذرة إلى الصين، ويمكنها تزويد السوق بأحجام محدودة تصل إلى نحو 500 ألف طن. أما رومانيا، وعلى الرغم من قربها الجغرافي وقدراتها الإنتاجية الكبيرة، فلم تحصل بعد على التفويض الرسمي اللازم للتصدير إلى السوق الصيني. 

بخلاف الصين، أين يجب البحث عن الطلب على الذرة؟ 

غم أن السوق الصيني يبدو بعيدة المنال هذا الموسم، ومع استمرار الضبابية بشأن آفاقه المستقبلية، فإن مُصدّري الحبوب من منطقة البحر الأسود، أوكرانيا، رومانيا وروسيا ، ما زالوا يحتفظون بمواقع قوية في أسواق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)، وكذلك في تركيا. ولا تزال الذرة الأوكرانية تشكّل سلعة أساسية للمشترين الأتراك، في حين تتمتع روسيا، رومانيا وبلغاريا بجاذبية أكثر محدودية في هذه الأسواق. ومن شأن الاستهلاك المستقر واحتياجات الاستيراد المتواصلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتركيا، أن يضمن بقاء الطلب على الذرة القادمة من البحر الأسود قوياً خلال الموسم المقبل. 


سيظل الاتحاد الأوروبي، لا سيما في ظل التهديدات بفرض تعريفات جمركية على الذرة الأمريكية، السوق الرئيسي للذرة الأوكرانية في الموسم المقبل. حيث إنه في الظروف العادية، توّرد أوكرانيا أكثر من نصف واردات الذرة إلى الاتحاد الأوروبي. إلا أن هذا الموسم شهد تحولاً غير متوقع، إذ قفزت صادرات الولايات المتحدة من الذرة إلى أوروبا إلى 2 مليون طن، مشكلةً بذلك نسبة 16% من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الذرة ، مقارنة بمستوى ـ182 ألف طن فقط في العام السابق، وهذه زيادة لافتة. ويُعزي أوليفييه بوييه، مدير التحليل في ASAP Agri، هذا الارتفاع الحاد إلى تنامي القدرة التنافسية السعرية للولايات المتحدة، التي تعززت في أعقاب احتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. 

أوليفييه بوييه
ASAP Agri.

لكن ميزة التنافس السعرية التي تتمتع بها الذرة الأمريكية قد لا تدوم طويلاً. فمن المتوقع أن يمدد الاتحاد الأوروبي سياسة الإعفاء الجمركي على واردات الذرة الأوكرانية إلى ما بعد 5 يونيو 2025، في حين لا يزال الاستيراد من أمريكا بدون رسوم جمركية يحيطه الغموض. ورغم أن التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مُعلّقة حتى مطلع شهر يوليو، فإن خطر إعادة فرض تعرفة جمركية بنسبة 25% على الذرة الأمريكية لا يزال قائماً. وفي هذا السياق، يقول أوليفييه بوييه، مدير التحليل في  ASAP Agri: «إذا عادت هذه الرسوم، فإن ميزة السعر التي تتمتع بها الذرة الأمريكية ستتبخّر. في الوقت نفسه، من شأن توسّع المساحات الزراعية في أوكرانيا وارتفاع المحصول خلال عام 2025 أن يخلق موسماً وفيراً، ما يزيد من فرص التصدير ويضع ضغوطاً على الأسعار المحلية باتجاه هبوطي. هذا المزيج يمكن أن يعزز بشكل حاد قدرة أوكرانيا التنافسية في السوق الأوروبية.»

طلب الصين على القمح آخذ في التناقص 

في موسم 2023/24، غطت الولايات المتحدة 14% من واردات الصين من القمح، أي ما يعادل 1.8 مليون طن. أما في الأشهر التسعة الأولى من موسم 2024/25 (يوليو – مارس)، فقد ارتفعت الحصة الأمريكية إلى 22%، لكنها لم تتجاوز 500 ألف طن فقط، وهو حجم أدنى مما كان عليه في الفترة ذاتها من الموسم السابق، حين بلغت الحصة 9% بما يعادل نحو 800 ألف طن. اللافت أنه في موسم 2024/25، لم تُسجل أي شحنات قمح أمريكي إلى الصين خلال الفترة ما بين يناير ومارس، بينما كانت الشحنات مستمرة بانتظام خلال الفترة نفسها من العام الماضي. 


بالإضافة لذلك، بلغت واردات الصين الإجمالية من القمح خلال الفترة من يوليو إلى مارس في موسم 2024/25 نحو 2.1 مليون طن فقط، وهو مستوى أدنى بكثير مقارنة بمستوى ـ8.2 مليون طن خلال الفترة ذاتها من موسم 2023/24، ما يعكس تناقص الطلب بصورة واضحة. وبحسب تقرير  WASDE الصادر في أبريل، من المتوقع أن تصل واردات الصين الإجمالية من القمح خلال موسم 2024/25 إلى مستوى 3.5 مليون طن، في تراجع حاد مقارنة بتقديرات الموسم السابق التي بلغت مستوى 13.6 مليون طن. وبناءً على هذه التقديرات، تكون الصين قد غطت نحو 60% من احتياجاتها من الواردات بحلول شهر أبريل.

 

يشير الانخفاض الحاد المتوقع في واردات القمح خلال هذا الموسم إلى تراجع كبير في الطلب العام للصين؛ وهذا الأمر لا يقتصر على القمح الأمريكي فحسب، بل يشمل جميع المصادر. لذلك، وبالرغم من وجود عدد محدود من الموردين المعتمدين، فإن استبدال القمح الأمريكي خلال بقية الموسم يُعد أمراً سهلاً نسبياً.


تقليدياً، تعتبر أستراليا وكندا وفرنسا من أكبر موردي القمح للصين، تليهما كازاخستان وروسيا بأحجام أقل. في موسم 2023/24، زوّدت كازاخستان الصين بحوالي 700 ألف طن، بينما لم تتجاوز إمدادات روسيا 300 ألف طن فقط. وفي حال استمرّت التوترات التجارية مع الولايات المتحدة، يُعد هؤلاء المصدرون الخمسة أبرز المرشحين لسد فجوات الإمداد. وحتى إذا ارتفع الطلب الصيني على الواردات إلى 10 ملايين طن في الموسم المقبل كما يتوقع بعض المحللين، فمن المرجح أن تتمكن هذه الدول من تلبية تلك الاحتياجات. 


إن الصراع التجاري المستمر مع الولايات المتحدة قد يسرّع من قرار الصين برفع الحظر المفروض منذ السبعينيات على استيراد القمح الشتوي الروسي، وهو ما قد يعزز حجم الإمدادات الروسية. يعود سبب هذا الحظر إلى مرض فطري يؤثر على المحصول ويقلل من الإنتاجية والجودة في بعض مناطق الإنتاج الروسية. رغم إجراء محادثات لرفع هذا الحظر، إلا أنه لا يزال سارياً حتى اليوم، حيث تسمح الصين فقط باستيراد القمح الربيعي الروسي. 

الموردون الآخرون في منطقة البحر الأسود، وهم أوكرانيا ورومانيا وبلغاريا، خارج سوق القمح الصيني بسبب القيود التنظيمية والوقائية الصحية للنباتات.

هل من الممكن توجه الطلب العالمي على القمح نحو منطقة البحر الأسود؟

رغم وجود إجراءات رد فعل ضد صادرات القمح الأمريكي، يبدو من  غير المحتمل انتقال الطلب العالمي إلى قمح منطقة البحر الأسود بشكل كبير. عند مقارنة أكبر خمسة مشترين لقمح أوكرانيا وروسيا ورومانيا مع المشترين الرئيسيين لقمح الولايات المتحدة، يتضح أن هؤلاء المصدّرين يخدمون أسواقاً مختلفة إلى حد كبير، مع حد أدنى من التداخل بينهما.


لذلك، إذا ردّ كبار مستوردي القمح الأمريكي بفرض تعريفات جمركية أو تقليل مشترياتهم من الولايات المتحدة، فمن المرجح أن يتجهوا إلى موردين راسخين مثل أستراليا وكندا بدلاً من التحول نحو منطقة البحر الأسود.

وفي تطور يعزز هذا الرأي، أعربت إندونيسيا، إحدى أكبر مستوردي القمح في العالم، عن استعدادها لزيادة واردات القمح الأمريكي بهدف تقليل الفائض التجاري مع الولايات المتحدة وتجنب الرسوم المحتملة في ظل إدارة ترامب. وأكدت رابطة منتجي الدقيق في إندونيسيا دعمها لهذا التحول طالما كانت أسعار السوق والقدرة التنافسية ملائمة. خلال الفترة من يوليو إلى فبراير في موسم 2024/25، استوردت إندونيسيا 256 ألف طن من القمح الأمريكي، مما جعلها تحتل موقعاً استراتيجياً متزايد الأهمية في التجارة الزراعية الأمريكية.

هل يمكن للبحر الأسود أن يأخذ مكان الولايات المتحدة الأمريكية في السوق الصيني؟ 

بالخلاصة، يبدو أن الذرة الأوكرانية في منطقة البحر الأسود تمتلك أكبر فرصة للاستفادة من حرب الرسوم الجمركية التي تخوضها الولايات المتحدة، لكن ذلك يبقى رهناً بتحقق شرطين أساسيين: الأول أن يشهد الطلب الصيني على الواردات ارتفاعاً خلال الموسم القادم، والثاني أن يعيد الاتحاد الأوروبي فرض تعرفة بنسبة 25% على الذرة الأمريكية في شهر يوليو. 


بالنسبة لبقية المورّدين في منطقة البحر الأسود، من غير المتوقع حصول تغييرات كبيرة في تدفقات التصدير، خاصة في ما يتعلق بالقمح. والاستثناء الوحيد المحتمل يتمثل في روسيا، التي قد تكسب موطئ قدم إضافي إذا ما رفعت الصين الحظر المستمر منذ فترة طويلة على استيراد القمح الروسي الشتوي.


مقالات في فئة تحليل السوق